“أرواحنا ماتت”: كيف نجوت من معسكر الاعتقال الصيني للأويغور

“أرواحنا ماتت”: كيف نجوت من معسكر الاعتقال الصيني للأويغور

المصدر: تركستان تايمز

غولبهار هايتيواجي، تصوير إيمانويل مارشادور

بعد 10 سنوات من العيش في فرنسا، عدت إلى الصين للتوقيع على بعض الأوراق وتم إعتقالي

على مدار العامين التاليين، تعرضت بشكل منهجي للتجريد من الإنسانية والإذلال وغسيل دماغ

بقلم: غولبهار هايتيواجي مع روزين مورغات

قال الرجل الذي كان على الهاتف أنه يعمل في شركة النفط، في المحاسبة. كان صوته لم يكن مألوفاً بالنسبة لي. في البداية، لم أستطع فهم لماذا كان يتصل. كان ذلك في نوفمبر 2016، وكنت في إجازة من الشركة منذ أن غادرت الصين وانتقلت إلى فرنسا قبل 10 سنوات. كان هناك تشويش في الإتصال، حيث كنت أسمعه بصعوبة.

وقال: يجب أن تعودوي إلى قاراماى لتوقيع وثائق تتعلق بتقاعدك القادم مدام هايتيواجي. قاراماي مدينة في مقاطعة شينجيانغ “تركستان الشرقية” حيث عملت في شركة النفط لأكثر من 20 عاماً.

قلت له: في هذه الحالة، أود أن أمنح توكيلاً رسمياً. يوجد صديق لي في قاراماي يهتم بشؤوني الإدارية. فلماذا يجب أن أعود لبعض الأوراق؟ لماذا أذهب كل هذا الطريق لهذا السبب التافه؟ ولماذا الآن؟

لم يكن لدى الرجل إجابات. قال ببساطة أنه سيعاود الإتصال بي بعد يومين بعد النظر في إمكانية السماح لصديقي بالتصرف نيابة عني.

وكان زوجي كريم قد غادر شينجيانغ في عام 2002 للبحث عن عمل. حاول العمل في قازاقستان، لكنه عاد بخيبة أمل بعد عام. ثم في النرويج. ثم فرنسا، حيث كان قد طلب اللجوء. وبمجرد إستقراره هناك، فسننضم إليه أنا وإبنتينا.

كان كريم يعرف دائماً إنه سيغادر شينجيانغ. وقد ترسخت الفكرة حتى قبل أن يتم التعاقد مع شركة النفط. وقد التقينا أيام الدراسة في أورومتشي- عاصمة مقاطعة شينجيانغ- وكنا خريجين جدد، بدأنا البحث عن عمل. كان هذا في عام 1988. في إعلانات الوظائف في الصحف، كان هناك في كثير من الأحيان عبارة مكتوبة بأحرف صغيرة: لا للأويغور. كان يجد هذا دائماً وبينما حاولت أن أتغاضى عن أدلة التمييز الذي تتبعنا في كل مكان، فقد أصبح هاجساً مع كريم.

بعد التخرج، عُرض علينا عمل كمهندسين في شركة النفط في قاراماي. كنا محظوظين ولكن بعد ذلك كان هناك مرحلة الظرف الأحمر. في العام القمري الجديد، عندما وزع الرئيس المكافآت السنوية، كانت المظاريف الحمراء المعطاة للعمال الأويغور تحتوي على أقل من تلك التي أعطيت لزملائنا الذين ينتمون إلى المجموعة العرقية المهيمنة في الصين، الهان. وبعد فترة وجيزة، نُقل جميع الأويغور من المدينة المركزية إلى ضواحي المدينة. اعترضت مجموعة صغيرة، لكنني لم أجرؤ. وبعد بضعة أشهر، كان هناك فرصة لمنصب رفيع المستوى، تقدم كريم بطلب. كان لديه المؤهلات العلمية والأقدمية. لم يكن هناك سبب يمنعه من الحصول على المنصب لكن المنصب ذهب إلى موظف ينتمي إلى الهان الذي لم يكن حتى لديه شهادة في الهندسة. وفي إحدى الليالي في عام 2000، عاد كريم إلى المنزل وأعلن إستقالته. وقال: كفى.

ما كان يعاني منه زوجي كان مألوفاً جداً منذ عام 1955، عندما ضمت الصين الشيوعية شينجيانغ كـ “منطقة ذاتية الحكم”، كان ينظر لنا نحن الأويغور على أننا شوكة في حلق الصين. إن شينجيانغ ممر إستراتيجي ومصدر ثروات غنية بالنسبة للحزب الشيوعي الحاكم في الصين بحيث لا يمكن أن يخاطر بفقدان السيطرة عليها. وقد استثمر الحزب الكثير في طريق الحرير الجديد، وهو مشروع البنية التحتية المصمم لربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى، التي تشكل منطقتنا محوراً هاماً فيها. إن شينجيانغ (تركستان الشرقية) ضرورية لخطة الرئيس شي جين بينج العظيمة ـ أي شينجيانغ مسالمة، مفتوحة للأعمال التجارية، خالية من ميولها الإنفصالية وتوتراتها العرقية. بإختصار، شينجيانغ بدون الأويغور.

مسيرة مؤيدة للأويغور في هونغ كونغ في عام 2019. الصورة: جيروم فافر / وكالة EPA

ذهبت أنا وإبنتي إلى فرنسا للإنضمام إلى زوجي في مايو 2006، قبيل دخول شينجيانغ فترة غير مسبوقة من القمع. تم منح إبنتي، 13 و8 سنوات وضع اللاجئ في ذلك الوقت، وكذلك والدهما. أثناء طلب اللجوء، كان زوجي قد قطع صلته تماماً بالماضي. والحصول على جواز سفر فرنسي يجرده من جنسيته الصينية في الواقع.

بالنسبة لي كان تسليم جواز سفري ينطوي على نتائج فظيعة، لن أتمكن أبداً من العودة إلى شينجيانغ. كيف يمكن أن أودع جذوري، والأحباء الذين تركتهم وراءي – والداي، إخوتي وأخواتي، أطفالهم؟ تخيلت أمي، وهي تتقدم في العمر، وتموت وحدها في قريتها في الجبال الشمالية. التخلي عن جنسيتي الصينية يعني التخلي عن وطني أيضاً، لم أستطع القيام بذلك، لذا تقدمت للحصول على تصريح إقامة قابل للتجديد كل 10 سنوات بدلاً من الجنسية.

بعد المكالمة الهاتفية، كان رأسي ملئ بالأسئلة وأنا أنظر حول غرفة المعيشة الهادئة في شقتنا في بولوني. لماذا أرادني ذلك الرجل أن أعود إلى قارامـاي؟ هل هي حيلة حتى تتمكن الشرطة من استجوابي؟ لم يحدث شيء من هذا القبيل لأي من الأويغور الآخرين الذين أعرفهم في فرنسا.

اتصل الرجل بعد يومين وقال لي: منح التوكيل لن يكون ممكناً، مدام هايتيواجي. يجب أن تأتي إلى قارامـاي شخصياً. لقد استسلمت، في نهاية الأمر لم تكن سوى مسألة وثائق قليلة.

قلت له: حسناً، لا بأس، لا بأس، سأكون هناك في أقرب وقت ممكن.

عندما أغلقت الخط، شعرت بقشعريرة أسفل العمود الفقري. كنت أخشى العودة إلى شينجيانغ. كان كريم يبذل قصارى جهده لطمأنتي، ولكن كان لدي شعور سيء حيال ذلك. في هذا الوقت من السنة، كانت مدينة قاراماي في شتاء قاس. هبت ثلوج بين المحلات التجارية والمنازل والمباني السكنية. وبشكل عام، لم يكن هناك روح يمكن رؤيتها. ولكن ما كنت أخشاه أكثر من أي شيء آخر هو الإجراءات الأكثر صرامة التي تنظم شينجيانغ. وأي شخص تطأ قدماه خارج منزله يمكن القبض عليه دون سبب على الإطلاق.

لم يكن ذلك جديداً، لكن الإستبداد أصبح أكثر وضوحاً منذ الأحداث الدامية التي وقعت في أورومتشي في عام 2009، وهو إنفجار العنف بين سكان الأويغور والهان في المدينة، والذي أسفر عن 197 قتيلاً. وشكل هذا الحدث نقطة تحول في التاريخ الحديث للمنطقة. وفي وقت لاحق، كان الحزب الشيوعي الصيني يلوم المجموعة العرقية بالكامل على هذه الأعمال المروعة، مبرراً سياساته القمعية بالإدعاء بأن الأسر الأويغورية كانت بؤرة للإسلام المتطرف والإنفصالية.

شهد صيف عام 2016 دخول لاعب جديد مهم في الصراع الطويل بين مجموعتنا العرقية والحزب الشيوعي. وقد عُين تشن تشوانجو رئيساً لمقاطعة شينجيانغ، وكانت سمعته هي فرض إجراءات مراقبة صارمة في التبت. ومع وصوله، تصاعد قمع الأويغور بشكل كبير. وأُرسل الآلاف إلى معسكرات الاعتقال المعروفة ب”المدارس” التي بُنيت بين عشية وضحاها في وسط الصحراء تقريباً. وكانت هذه المعسكرات تسميها الصين بمراكز “التحول من خلال التعليم”. وأُرسل المحتجزون إلى هناك لغسل دماغهم – وأسوأ من ذلك.

لم أكن أريد العودة، ولكن على أي حال قررت العودة، وأن كريم كان على حق، لم يكن هناك سبب للقلق، الرحلة ستستغرق بضعة أسابيع فقط، بالتأكيد سوف يدفعونك للإستجواب، ولكن لا داعي للذعر. هذا أمر طبيعي تماماً.

بعد أيام من وصولي إلى الصين، في صباح 30 نوفمبر2016، ذهبت إلى مكتب شركة النفط في قراماي للتوقيع على الوثائق المزعومة المتعلقة بتقاعدي. في المكتب مع جدرانه المتهالكة جلس المحاسب بصوته العالي، وهو من الهان، وسكرتيرته، منحني وراء الشاشة.

والمرحلة التالية تم استجوابي في مركز شرطة كونلون، على بعد 10 دقائق بالسيارة من مقر المكتب الرئيسي للشركة. في الطريق، أعددت إجاباتي على الأسئلة التي كان من المرجح أن تُطرح علي. حاولت أن أتماسك بعد أن تركت أمتعتي في مكتب الإستقبال، تم نقلي إلى غرفة ضيقة بلا شباك، غرفة الإستجواب. لم أكن في مثل هذا الموقف من قبل. فُصلت طاولة كرسيي الشرطيين عن مقعدي. همهمة هادئة من المدفأة، والسبورة البيضاء سيئة التنظيف، والإضاءة الباهتة، كل هذا يهيء المشهد. ناقشنا الأسباب التي دفعتني إلى مغادرة فرنسا، ووظائفي في مخبز وكافتيريا في منطقة الأعمال في باريس، لا ديفانس.

ثم قام أحد الضباط بدفع صورة تحت أنفي. لقد جعل دمي يغلي كان وجهاً أعرفه – خدين ممتلئين، أنف نحيل. لقد كانت ابنتي جولخومار كانت تقف أمام ساحة تروكاديرو في باريس، في معطفها الأسود، الذي أعطيتها إياه. في الصورة، كانت تبتسم، علم تركستان الشرقية المصغر في يدها، علم كانت الحكومة الصينية قد حظرته. أما بالنسبة للأويغور، فإن هذا العلم يرمز إلى حركة الإستقلال في المنطقة. وكانت هذه المناسبة واحدة من المظاهرات التي نظمها الفرع الفرنسي للمؤتمر العالمي للأويغور، الذي يمثل الأويغور في المنفى ويتكلم ضد القمع الصيني في شينجيانغ.

الأويغور وأنصارهم يتظاهرون بالقرب من برج إيفل في باريس عام 2020. تصوير: محمد بدرة / وكالة EPA

سواء كنت مُسيساً أم لا، فإن مثل هذه التجمعات في فرنسا هي قبل كل شيء فرصة للمجتمع للإلتقاء، مثل أعياد الميلاد والعيد ومهرجان عيد النوروز الربيعي. يمكنك الذهاب للإحتجاج على القمع في شينجيانغ، ولكن أيضا، كما فعلت جولخومار، لرؤية الأصدقاء واللحاق في المنفى. في ذلك الوقت، كان كريم يحضر بشكل متكرر. ذهبت الفتيات مرة أو مرتين. لم أذهب أبداً -السياسة ليست من إهتماماتي منذ أن غادرت شينجيانغ- أصبحت أقل إهتماماً.

فجأة، ضرب الضابط قبضته على الطاولة.

أنت تعرفينها، أليس كذلك؟

نعم، إنها إبنتي

إبنتك إرهابية

لا أعرف لماذا كانت في تلك المظاهرة

ظللت أكرر، لا أعرف، لا أعرف ما كانت تفعله هناك، لم تكن تفعل أي شيء خاطئ، أقسم! إبنتي ليست إرهابية ولا زوجي!

لا أستطيع تذكر بقية الإستجواب كل ما أتذكره هو تلك الصورة، وأسئلتهم العدوانية، وردودي العقيمة. لا أعرف كم من الوقت استمر، أتذكر أنه عندما إنتهى الأمر، قلت، بشكل سريع: هل يمكنني أن أذهب الآن؟ هل انتهينا هنا؟ ثم قال أحدهم: لا، يا غولباهار هايتيواجي، لم ننته.

يمين! يسار! قف! كان هناك 40 منا في الغرفة، جميع النساء، يرتدين بيجامة زرقاء. كان الفصل مستطيل الشكل باهت. مصراع معدني كبير، مثقوب بثقوب صغيرة تسمح للضوء بالدخول، أخفى العالم الخارجي عنا. 11 ساعة في اليوم، تم تقليص العالم في هذه الغرفة. صرير نعالنا على المشمع. احتفظ جنديان من الهان بالوقت بلا هوادة بينما كنا نسير صعوداً وهبوطا في الغرفة. وكان هذا يسمى التربية البدنية. والواقع أن هذا التدريب يعادل التدريب العسكري.

كانت أجسادنا المنهكة تتحرك عبر المكان في انسجام، ذهابا وإياباً، جنباً إلى جنب، من زاوية إلى أخرى. عندما كان الجندي يصرخ راحة! بلغة الماندرين، يتوقف فوج السجينات. لقد أمرنا بالبقاء ساكنين يمكن أن تستمر هذا إلى نصف ساعة، أو في ساعة كاملة في كثير من الأحيان، أو حتى أكثر من ذلك. وعند ذلك، تبدأ أرجلنا بالوخز مثل الدبابيس والإبر. كافحت أجسادنا، التي لا تزال دافئة ومتعبة، كافحن حتى لا تتمايل في الحرارة الرطبة. يمكننا أن نشم رائحة أنفاسنا الكريهة، كنا نلهث مثل الماشية أحياناً، قد يغمى على أحد منا. إذا لم تسترد وعيها، يسحبها أحد الحراس من قدميها ويصفعها حتى تستيقظ. إذا انهارت مرة أخرى، فإنه يسحبها خارج الغرفة، ولا نراها مرة أخرى. في البداية، صُدمت، لكن الآن اعتدت على ذلك. يمكنك أن تعتاد على أي شيء، حتى الرعب.

كان في شهر يونيو 2017، وكنت هنا لمدة ثلاثة أيام. بعد ما يقرب من خمسة أشهر في زنزانات شرطة قاراماي، بين الإستجوابات وأعمال القسوة العشوائية، في إحدى المراحل كنت مقيدة إلى سريري لمدة 20 يوماً كعقاب، على الرغم من أنني لم أعرف أبداً سبب ذلك – قيل لي إنني سأذهب إلى “المدرسة”. لم أسمع أبداً عن هذه المدارس الغامضة أو الدورات التي تقدمها وقد قيل لي أن الحكومة أنشأتها “لتصحيح الأويغور”. قال النساء اللواتي شاركن زنزانتي أنها ستكون مثل مدرسة عادية مع مدرسين من الهان. قالت إنه بمجرد إجتيازها، سيكون الطلاب أحراراً في العودة إلى منازلهم.

كانت هذه “المدرسة” في منطقة بايجيانتان، وهي منطقة تقع على مشارف قاراماي. بعد مغادرة زنازين الشرطة، كانت تلك كل المعلومات التي تمكنت من الحصول عليها، من لافتة عالقة في مصرف جاف حيث كانت بعض الأكياس البلاستيكية الفارغة تنجرف حولها. على ما يبدو، كان التدريب يدوم أسبوعين. بعد ذلك، تبدأ الدروس النظرية. لم أكن أعرف كيف سأصمد كيف لم أكسر بالفعل؟ كانت بايجيانتان أرضاً خالية ترتفع منها ثلاثة مبان، كل منها بحجم مطار صغير. وراء الأسلاك الشائكة، لم يكن هناك شيء سوى الصحراء بقدر ما يمكن للعين أن ترى.

سجناء مقيدون ومعصوبي الأعين، من الأويغور، يتم نقلهم في محطة قطار في شينجيانغ في عام 2018. الصورة: الحرب على الخوف

في يومي الأول، قادتني حارسات إلى مهجع مليء بالأسرّة، مجرد ألواح خشبية مرقمة. كان هناك بالفعل إمرأة أخرى نادرة، سرير رقم 8. تم إعطائي سرير رقم 9.

أطلعتني نادرة حول المهجع، الذي كانت تفوح منه رائحة الطلاء الطازج وقالت: دلو للقيام بأعمالك، وركلته بغضب; النافذة مع مصراعها المعدني مغلقة دائماً؛ الكاميرتان تتحركان ذهاباً وإياباً في زوايا عالية من الغرفة. هذا كل شيء لا فراش، لا أثاث. لا توجد مناديل مرحاض لا توجد ملاءات لا بالوعة. فقط نحن الإثنتان في العتمة ودوي أبواب الزنازين الثقيلة تغلق.

لم تكن هذه مدرسة، لقد كان معسكراً لإعادة التعليم، مع قواعد عسكرية، ورغبة واضحة في كسرنا. تم فرض الصمت، ولكن، فرض ضرائب جسدية إلى أقصى حد، لم نعد نشعر بالرغبة في الحديث على أي حال. مع مرور الوقت، تضاءلت محادثاتنا. كانت أيامنا تتخللها صراخ الصفارات وقت الإستيقاظ، وفي وقت الوجبات، وفي وقت النوم. كان الحراس دائماً يراقبوننا لم يكن هناك طريقة للهروب من يقظتهم، ولا يوجد سبيل للهمس، أو مسح فمك، أو التثاؤب خوفاً من إتهامك بالصلاة. كان رفض الطعام مخالفاً للقواعد، خوفاً من أن نوصف بـ “إرهابي إسلامي”. ادعى الحراس أن طعامنا كان حلال.

في الليل، نمت على سريري في ذهول. لقد فقدت كل إحساس بالوقت لم يكن هناك ساعة خمنت في ذلك الوقت من اليوم مدى برودة أو سخونة الجو. أرعبني الحراس. لم نر ضوء النهار منذ وصولنا – تم حظر جميع النوافذ من قبل تلك المصاريع المعدنية اللعينة. على الرغم من أن أحد رجال الشرطة وعدني بالحصول على هاتف، إلا إنه لم يفعل. من كان يعلم أنني محتجزة هنا؟ هل تم إخطار أختي، أو كريم وجولخمار؟ لقد كان كابوساً يقظاً تحت النظرة الجامدة لكاميرات المراقبة، لم أستطع حتى الإنفتاح على زملائي المعتقلين. كنت متعبة جداً لم أستطع التفكير بعد الآن.

كان المعسكرعبارة عن متاهة واسعة حيث قادنا الحراس في مجموعات بالمهجع. للذهاب إلى الإستحمام أوالحمام أوالفصول الدراسية أو المقصف، تم اصطحبنا عبر سلسلة من الممرات لا نهاية لها مضاءة بالفلورسنت. حتى لحظة الخصوصية كانت مستحيلة. في أي من طرفي الممرات، أغلقت الأبواب الأمنية التلقائية المتاهة مثل غرف معادلة الضغط. شيء واحد كان مؤكدًا: كل شيء هنا كان جديداً. كان تفوح منه رائحة الطلاء من الجدران الناصعة كتذكير دائم. يبدو وكأنه مبنى لمصنع، (اكتشفت لاحقًا أنه كان مجمعًا للشرطة تم إعادة تشكيله)، لكن لم يكن لدي حتى الآن أي فكرة عن مدى حجمه..

دفعني العدد الهائل للحراس والسجينات الأخريات اللواتي مررنا بهم أثناء تنقلنا إلى الإعتقاد بأن هذا المعسكر كان ضخماً. كل يوم، أرى وجوهاً جديدة، تشبه الزومبي، مع إنتفاخات وتورم تحت العينين. وبحلول نهاية اليوم الأول، كان هناك سبعة منا في زنزانتنا؛ بعد ثلاثة أيام كان هناك 12. القليل من العمليات الحسابية: لقد أحصيت 16 مجموعة من الزنزانات، بما في ذلك مجموعتي، كل مجموعة بها 12 سريراً ممتلئة… والتي كانت تكفي ما يقرب من 200 محتجز في بايجيانتان. مائتي إمرأة تم نزعهن من أسرهن مائتي حياة محبوسة حتى إشعار آخر والمعسكر مستمر في التعبئة.

يمكنك أن تعرف الوافدين الجدد من وجوههم المذهولة. ما زالوا يحاولون مقابلة عينيك في الردهة. أولئك الذين كانوا هناك لفترة أطول ينظرون إلى أقدامهم. حيث كانوا يتجولون في صفوف متقاربة مثل الروبوتات. لقد انطلقوا إلى الإنتباه عندما أمرهم الحراس بصفارتهم بذلك يا إلهي، ما الذي تم فعله لجعلهم يبدون هكذا؟

كنت أعتقد أن الدروس النظرية ستجلب لنا القليل من الراحة من التدريب البدني، لكنها كانت أسوأ من ذلك. كانت المعلمة تراقبنا دائماً، وكانت تصفعنا في كل فرصة تسنح لها. في أحد الأيام، أغلقت إحدى زميلاتي في الصف عينيها، وهي امرأة في الستينات من عمرها، بالتأكيد من الإرهاق أو الخوف. قامت المعلمة بصفعها بوحشية “أعتقد أنني أراك تصلي؟ سوف تعاقبين! سحبها الحراس بعنف من الغرفة. وبعد ساعة، عادت بشيء كتبته نقدها الذاتي. جعلتها المعلمة تقرأ ما كتبته لنا بصوت عالٍ. لقد أطاعت، وجهها شاحب، ثم جلست مرة أخرى. كل ما فعلته هو اغلاق عينيها.

بعد بضعة أيام، فهمت ما يعنيه الناس بـ “غسل الدماغ”. كل صباح، كانت مدربة أويغورية تأتي إلى فصلنا الدراسي الصامت. إمرأة من نفس أصلنا العرقي تعلمنا كيف نكون صينيين لقد عاملتنا كمواطنين ضالين كان على الحزب أن يعيد تثقيفنا، كنت أتساءل عن رأيها في كل هذا. هل فكرت في أي شيء على الإطلاق؟ من أين جاءت؟ كيف إنتهى بها المطاف هنا؟ هل كانت هي نفسها قد أُعيد تعليمها قبل القيام بهذا العمل؟

في إشارة منها، وقفنا جميعاً في وقت واحد. “لاو شي هاو!” بدأت هذه التحية وللمعلم 11 ساعة من التدريس اليومي. ولقد كنا نتلو نوعاً من الولاء للصين: شكرا لبلدنا العظيم. شكراً لحزبنا شكراً لرئيسنا العزيز شي جين بينغ. وفي المساء، كنا نتلو نسخة مماثلة في نهاية الدرس: أتمنى لو أن بلدي العظيم يتطور وأن يكون له مستقبل مشرق. أتمنى لجميع الأعراق أن تشكل أمة واحدة عظيمة. أتمنى الصحة الجيدة للرئيس شي جين بينغ. يعيش الرئيس شي جين بينغ.

يُعتقد أن مركز خدمة التدريب على تعليم المهارات المهنية بمدينة أرتوش شمال كاشغر، شينجيانغ، هو منشأة لإعادة التعليم. تصوير: جريج بيكر / وكالة الصحافة الفرنسية / جيتي

ونحن ملتصقون بمقاعدنا، كررنا دروسنا مثل الببغاوات. لقد علّمونا تاريخ الصين المجيد ــ نسخة مطهرة، خالية من الإنتهاكات. على غلاف الكتيب الذي أُعطي لنا كان مكتوباً “برنامج إعادة التعليم”. ولم تتضمن سوى قصص السلالات القوية وفتوحاتهم المجيدة، والإنجازات العظيمة للحزب الشيوعي. بل كان أكثر تسييساً وتحيزاً من التدريس في الجامعات الصينية. في الأيام الأولى، جعلني ذلك أضحك. هل كانوا يعتقدون حقاً أنهم سيحطموننا ببضع صفحات من الدعاية؟.

ولكن مع مرور الأيام، بدأ التعب مثل عدو قديم. فقد كنت منهكة، وكان عزمي الثابت على المقاومة في متوقفاً بشكل دائم. حاولت ألا أستسلم، ولكن المدرسة استمرت في العمل. لقد تدحرجت على أجسادنا المتعبة لذلك كان هذا غسيل دماغ – قضيت أياماً كاملة أكرر نفس العبارات الغبية. كما لو أن ذلك لم يكن كافياً، كان علينا أن القيام بساعة إضافية من الدراسة بعد العشاء في المساء قبل الذهاب إلى الفراش. ونراجع دروسنا المتكررة بإستمرار مرة أخرى. كل يوم جمعة، كان لدينا اختبار شفهي وكتابي. بالتناوب، تحت العين الحذرة لقادة المعسكر، كنا نتلو الخليط الشيوعي الذي كنا قد حفظناه.

وبهذه الطريقة، أصبحت ذاكرتنا قصيرة المدى حليفنا الأكبر وأسوأ أعدائنا على حد سواء. وقد مكننا ذلك من إستيعاب مجلدات التاريخ وإعلانات المواطنة الوفية، حتى نتمكن من تجنب الإذلال العلني الذي وضعه المعلم. ولكن في الوقت نفسه، أضعف قدراتنا الحاسمة. لقد سلبنا الذكريات والأفكار التي تربطنا بالحياة بعد فترة لم أعد أستطيع أن أتخيل بوضوح وجوه كريم وإبنتي. كنا نعمل حتى كنا لا شيء أكثر من الحيوانات الغبية. لم يخبرنا أحد إلى متى سيطول هذا الأمر.

كيف حتى أبدأ قصة ما مررت به في شينجيانغ؟ كيف أقول لأحبائي أنني عشت تحت رحمة عنف الشرطة، ومن الأويغور مثلي الذين بسبب الوضع الذي أعطاهم لهم الزي الرسمي، يمكن أن يفعلوا ما يحلو لهم معنا، ومع أجسادنا وأرواحنا؟ برجال ونساء تم غسل أدمغتهم بشكل شامل – الروبوتات التي جردت من الإنسانية، وإنفاذ الأوامر بحماس، والبيروقراطيين الصغار الذين يعملون في ظل نظام يتم فيه إدانة أولئك الذين لا ينددون بالآخرين، ويتم معاقبة أولئك الذين لا يعاقبون الآخرين. مقتنعين بأننا أعداء يجب هزيمتنا – خونة وإرهابيين – سلبوا حريتنا. لقد حبسونا كحيوانات في مكان ما بعيداً عن بقية العالم، خارج الزمن: في المعسكرات.

وفي معسكرات “التحول من خلال التعليم”، لا تعني الحياة والموت الشيء نفسه كما تفعل في أماكن أخرى. فكرت أكثر من مائة مرة، عندما توقظنا أقدام الحراس في الليل، إن وقتنا قد حان لإعدامنا. عندما دفعت يد المقص بقسوة عبر جمجمتي، وانتزعت يد أخرى خصلات شعري التي سقطت على كتفي، أغلقت عيني، غائمة بالدموع، معتقدة أن نهايتي قريبة، وأنني كنت مستعدة للمشنقة، أوالكرسي الكهربائي، أوالغرق. الموت كامن في كل زاوية. عندما أمسكت الممرضات بذراعي لـ “تطعيمي”، اعتقدت أنهن يسممونني. في الواقع، كانوا يقومون بتعقيمنا. وكان ذلك عندما فهمت طريقة المعسكرات، والإستراتيجية التي يجري تنفيذها: ليس لقتلنا بدم بارد، ولكن لجعلنا نختفي ببطء. ببطء شديد بحيث لا أحد سيلاحظ.

لقد أُمرنا بإنكار هويتنا. أن نبصق على تقاليدنا ومعتقداتنا. لإنتقاد لغتنا. لإهانة شعبنا، كان هناك نساء مثلي خرجن من المعسكرات، لم نعد كما كنا في السابق. نحن ظلال أرواحنا التي ماتت، جعلتني أعتقد بأن أحبائي، زوجي وإبنتي، إرهابيون. كنت بعيدة جداً، وحيدة جداً، منهكة وغريبة جداً، لدرجة أنني أوشكت على تصديق ذلك. زوجي، كريم، ابنتي جولخومار وجولنيغار – لقد استنكرت “جرائمكم”. توسلت الصفح من الحزب الشيوعي على الفظائع التي لا أنت ولا أنا ارتكبناها. أنا نادمة على كل ما قلته والذي أُهانكم. اليوم أنا على قيد الحياة، وأريد أن أعلن الحقيقة. لا أعلم إن كنتم ستتقبلونني، لا أعلم إن كنتم ستسامحونني.

كيف يمكنني أن أبدأ بإخباركم ما حدث هنا؟

لقد احتُجزت في بايجيانتان لمدة عامين. خلال تلك الفترة، حاول كل من حولي – ضباط الشرطة الذين جاءوا لإستجواب السجناء، بالإضافة إلى الحراس والمعلمين والمدربين – أن يجعلوني أصدق الكذبة الضخمة التي بدونها لم يكن بوسع الصين تبرير مشروعها لإعادة التعليم: أن الأويغور إرهابيون، وبالتالي أنا غولبهار، بصفتي من الأويغور وكنت أعيش في المنفى في فرنسا لمدة 10 سنوات، كنت إرهابية. بعد عدة موجات من الدعاية تحطمت عزيمتي، ومع مرور الأشهر، بدأت أفقد جزءاً من عقلي. تحطمت أجزاء من روحي وانفصلت. لن أستعيدهم أبداً.

خلال الإستجوابات العنيفة التي قامت بها الشرطة، كنت أخضع تحت الضربات – لدرجة أنني أدليت بإعترافات كاذبة. تمكنوا من إقناعي أنه كلما أسرعت في تحمل جرائمي، كلما أسرعت في المغادرة. كنت منهكة، استسلمت أخيراً. لم يكن لدي خيار آخر لا أحد يستطيع أن يقاتل ضد نفسه للأبد مهما كنت تكافح بلا كلل غسيل الدماغ، فإنه يقوم بعمله الخبيث. تهجرك الرغبة والعاطفة. ما هي الخيارات التي تبقت لك؟ هبوط بطيء ومؤلم إلى الموت، أو الخضوع. إذا كنت تلعب في الخضوع، إذا كنت تتظاهر فقدان صراعك النفسي ضد الشرطة، فإنك على الأقل، على الرغم من كل شيء، تتمسك بجزء من الوضوح الذي يذكرك من أنت.

لم أصدق أي كلمة مما كنت أقوله لهم لقد فعلت ما بوسعي ببساطة لأكُون ممثلة جيدة

في 2 أغسطس 2019، وبعد محاكمة قصيرة، أمام جمهور من عدد قليل من الناس، أعلن قاضٍ من قاراماي عن براءتي. بالكاد سمعت كلماته. لقد استمعت إلى الجملة كما لو أنها لا علاقة لي بها. كنت أفكر في كل الأوقات التي أكدت فيها براءتي، كل تلك الليالي التي كنت اتقلب فيها على فراشي، غضبت من أن لا أحد يصدقني. وكنت أفكر في كل تلك الأوقات الأخرى عندما اعترفت بالأشياء التي اتهموني بها، كل الإعترافات المزيفة التي أدليت بها، كل تلك الأكاذيب.

كانوا قد حكموا عليّ بسبع سنوات من إعادة التعليم. لقد عذبوا جسدي وأخذوا عقلي إلى حافة الجنون. والآن، بعد مراجعة قضيتي، قرر القاضي إنني في الواقع بريئة. كنت حرة في الذهاب.

 

  • تم تغيير بعض الأسماء. ترجمة إدوارد جوفين. هذا هو مقتطف محرر من Rescapée Chinois (الناجي من الجولاج الصيني) من قبل Gulbahar Haitiwaji ، شاركت في تأليفه مع Rozenn Morgat ونشرت من قبل طبعات des Equateurs

 

  • عُدلت هذه المقالة في 14 يناير لتوضيح موقع معسكر بايجيانتان الذي احتُجزت فيه غولبهار هايتيواجي

ترجمة/ رضوى عادل

https://www.theguardian.com/world/2021/jan/12/uighur-xinjiang-re-education-camp-china-gulbahar-haitiwaji?fbclid=IwAR2uu8nCyb3njgmzxltIvxtQbqjwKK-MqBURydS6ZN4C47E2ILPAvnk6na0