علاقات قرغيزستان بمحيطها (تركيا ـ روسيا ـ الصين ـ إيران ـ الخليج)
2015.07.04 المسلم
ما يشبه المستحيل أن تجد رئيساً يحضر خطاب الفوز لرئيس منتخب آخر ليحتفل معه كما لو كان يشاركه في عضوية حزبه.. ومحال أن تجد رئيساً يشبك يده مع آخر خارج لتوه من حلبة منافسة انتخابية رئاسية ديمقراطية كما لو كان مشاركاً في حملته الانتخابية..
خطاب الرئيس القرغيزي ألماز بك أتانباييف على منصة حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية محتفلاً بفوز أردوغان في معركة انتخابية أقيمت من خلف ستار بين مشروعين، عثماني وأتاتوركي، كان لافتاً جداً للنظر “أيها الإخوة الأعزاء… وإنني قادم إليكم أحمل تحية من أرض الأجداد.. مبارك لكم وأهنئكم للرئيس الجديد، وتركيا ليست كما مضت.. وأريد أن أذكركم بأننا قبل 12 عاماً كنا نجد تركيا الضعيفة، وتجد صعوبة في الحصول على القروض الأجنبية، واليوم نجد أمامنا تركيا القوية الواقفة بثبات والقادرة على إقراض الدول الأخرى.
ولاشك أن ما تم إنجازه على مر 12 سنة كان يعود فضله إلى الإصلاحات، ومهندس هذه الإصلاحات هو رجب طيب أردوغان.
إخواني الأعزاء.. أسأل الله وأقول حفظ الله تركيا ووحدتها واستقرارها.. وعلى الجميع أن يحترم الشعب التركي وإرادته، ونحن رأيناها في اختيار عبر الصناديق.
إخواني الأعزاء.. فتح الله الطريق أمام تركيا.. وألهم الله تركيا النعم والرفاهية.. تحيا تركيا وتحيا الأخوة التركية القرغيزية.. ونحن نشكر الرئيس (أردوغان) على هذه الكلمة.. وإنه لصوت المظلومين”.
تلفت الخطبة النظر من زاوية هذا الاندفاع نحو نظام يبدو تواقاً إلى دولة عثمانية كانت تضم كل الشعوب الناطقة بالتركية تحت مظلة إسلامية، ومن زاوية التقرب إلى قوة إقليمية صاعدة، وإلى تعاون أرحب في المجال الاقتصادي.
ليس النظام في قرغيزستان دينياً، ولا يسعى لهذا، ويكاد يجد نفسه في الجانب الآخر من فكرة الإصلاح الديني، لكنه على كل حال ليس بذاك النظام الذي يماثل الأنظمة الديكتاتورية في آسيا الوسطى، ككازاخستان وأوزبكستان، وهو يعطي هامشاً أقل ضيقاً من نظرائه شركاء وادي فرغانة، مأرز الحركات الإسلامية في المنطقة، فمظاهر التدين لا تلقى عنتاً مشابهاً لدول آسيا الوسطى، وديمقراطيتها المحدودة تسمح بقدر من الانفتاح على المؤسسات الإسلامية.
كبلد نامٍ، خرج من تحت سلطة الاتحاد السوفيتي الغاشمة، وعلاقات لم تزل وثيقة سياسياً واقتصادياً مع وريثته روسيا، يتطلع إلى علاقة أوثق مع حكومة أنقرة، التي تسعى لاستعادة نفوذها القوي السابق في آسيا الوسطى، فإذا كانت الحكومة الحالية قد عززت علاقتها اقتصادياً منذ إنشاء مجلس التعاون الاستراتيجي عالي المستوى بين البلدين قبل أربع سنوات؛ فهي تبدو الآن أكثر حماسة لتطوير علاقتها مع تركيا متجاوبة مع رغبة تركية في تقوية روابط علاقاتها بدول آسيا الوسطى عموماً، وقرغيزستان خصوصاً، كون الأخيرة تمثل حالة تستحق التشجيع، في مجال الديمقراطية، وفقاً للسياسة التركية، والتي يقول زعيمها أردوغان أن بلاده معنية بتشجيع الدول الناطقة بالتركية على المضي قدماً في إقامة نظم تحترم إرادات الشعوب.
بالعودة إلى خطاب أتانباييف؛ فإن الرئيس القرغيزي يعتبر أنه قادم للأتراك من أرض “أجدادهم”، مستخدماً أسلوب “الدعاء” في خطابه بما يعاكس ما كان حاول بعض البرلمانيين القرغيز فرضه من منعه من القسم بالله لكيلا يخدشوا “علمانية الدولة” من قبل! (مع أن الرجل نفسه لا يحب ارتداء النساء للحجاب!).. أحجية هكذا، لكن فك لغزها في أن قرغيزستان لديها ارتباطها الثقافي والاجتماعي بتركيا، وتريد أن تعود لشيء من الماضي رسمياً، وتتطلع لتعاون أوثق مع الدولة التركية الأولى الصاعدة بقوة، وهي في سبيل هذا تشهد نوعاً من الانفتاح على الدولة التركية ففي عاصمتها بشكيك توجد جامعة ماناس التركية القرغيزية، وفي مدينة تركستان القرغيزية توجد جامعة الشيخ أحمد ياساوي الدولية التركية القرغيزية (نسبة إلى الداعية والشاعر التركي الكازاكي الصوفي أحمد ياساوي)، وهي لا تبدي تحفظات جوهرية على عمل ” منظمة الثقافة التركية الدولية توركصوي من أجل حماية الثقافة والتراث والفن واللغة التركية وترويجها عالميا ونقلها من جيل إلى جيل”، داخل قرغيزستان، كما أنها ترحب بـ”مشروع الطلاب الكبير” الذي يقدم منحاً للطلاب من دول آسيا الوسطى، ولدى تركيا (العدالة والتنمية) اهتمام كبير بالجانب الديني في آسيا الوسطى، وفي هذا السياق يلمح مدى رغبة أنقرة في أن تكون أكبر المساجد التي تبنيها مؤسساتها الدينية والخيرية في آسيا الوسطي هي في العاصمة القرغيزية، هذا يعبر عن انفتاح قرغيزي نسبي وتكتيك تركي.. علاقة قرغيزستان مع أنقرة تمضي في نمو متزايد لاسيما بعد إسقاط تركيا ديون قرغيزستان المستحقة عليها.
لكن هذا كله، لا يمنع من أن قرغيزستان رغم انفتاحها النسبي، مقارنة بنظيراتها في قلب آسيا، لها علاقاتها الوثيقة رسمياً بروسيا؛ فإرث الاحتلالين القيصري ثم البلشفي الروسيين، والثقافة الروسية التي زرعتها موسكو في أرضها، لاسيما العاصمة التي تبدو أكثر بعداً عن الثقافة الإسلامية والالتزام الديني من المناطق الجبلية، وسهل وادي فرغانة (جنوب قرغيزستان)، وتعد الحاجة لمصادر الطاقة الروسية، وإلى الاستثمارات الروسية دافعاً لبقاء العلاقات وثيقة مع موسكو، خصوصاً أننا نتحدث عن البلد الأكثر بعداً جغرافياً عن تركيا، والمحيط الإسلامي.
أيضاً، تظل قرغيزستان كدولة لها حدود مشتركة مع تركستان الشرقية المحتلة من قبل الصين، مضطرة إلى بناء علاقة متوازنة مع محيطها الإقليمي، ودوله الرئيسة، روسيا، الصين، تركيا.. ومع الصين تحديداً يبدو أن الأمر يفوق حالة “الاضطرار”، فالنفوذ الصيني في البلاد يزداد في ظل حرص الصين على أن تطوق تركستان الشرقية المحتلة من جهة الشمال الغربي (قرغيزستان)، لذا؛ فقد صارت الصين في الآونة الأخيرة هي أكبر مورد وثاني أكبر شريك تجاري للبلاد، وهي تركز على مشروع استراتيجي بالنسبة لها، وهو طريق الشمال/الجنوب في قرغيزستان بما يؤهل العاصمة بشكيك لأن تكون أكثر مركزية في سلطتها على مناطق الجنوب التي تضم جماعات جهادية تستفيد من وعورة الطرق الجبلية في تأمين نفسها، وهو ما تخشاه بكين لما يمكن أن تقدمه تلك الجماعات من مساعدة لنشطاء تركستان الشرقية في نضالهم من أجل استقلال بلادهم عن الصين، وهو ما كانت عبرت عنه صراحة على لسان رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني قبل 6 سنوات حين ربط في لقائه مع رئيس وزراء قرغيزستان وقتها (ورئيسها الحالي حالياً) بين مساعدة بلاده لقرغيزستان اقتصادياً ومكافحة الأحرار التركستان معبراً عن رغبته “في العمل مع قرغيزستان من أجل مكافحة قوى (تركستان الشرقية) بشكل مشترك و(القوى الثلاثة) للانفصالية والارهاب والتطرف.. لأن ذلك سيساعد في التنمية الشاملة لعلاقات حسن الجوار بين الصين وقرغيزستان”.. أيضاً، تهتم بكين بالجانب الثقافي ونقله إلى “نخبة المدن القرغيزية”، لذا اهتمت بتأسيس معاهد كونفوشيوس (لتعليم اللغة والثقافة الصينيين) في قرغيزستان لهذا الغرض.
ومن الجانب الإيراني؛ فإن علاقات قرغيزستان تظل محدودة مع طهران، ولم ترصد حماسة لدى الأخيرة لتوثيق علاقتها ببشكيك التي تردد أكثر من مرة أن الولايات المتحدة ستستخدم قاعدتها الموجودة في قيرغيزستان لضرب إيران، لكن هذا لم يحصل، وبدا أن بشكيك حاولت تعزيز علاقتها بطهران، ومؤخراً أيدت حق إيران في امتلاك مشروع نووي متقدم، إلا أن الأخيرة تبقي علاقتها بهذا البلد أقل من علاقتها بدول آسيا الوسطى التي يبلغ حجم تبادلها التجاري معها أكبر من قرغيزستان، وكذا، قوتها الناعمة (نشر التشيع بين مسلمي آسيا الوسطى) تبقى أقل تأثيراً في قرغيزستان عن شقيقاتها.
أما ما يعني العرب أكثر؛ فهو إقبال تلك البلاد أكثر من غيرها من دول آسيا الوسطى على العالم العربي، ومحاولاتها جذب استثمارات سعودية وقطرية وإماراتية لاسيما في مجالات الطاقة والسياحة، بما فتح الباب أكثر لتوثيق علاقات قوى المجتمع الأهلي العربية والإسلامية مع شعبها، وبما يجعل قرغيزستان مؤهلة أكثر من شقيقاتها لأن تكون قاطرة التأثير الثقافي الخليجي في دول آسيا الوسطى..
الأهم من هذا كله، أن الجامع الأكبر لمنطقة دول آسيا الوسطى هو الإسلام؛ فليست ثمة افتراق إثني أو عداء بالمعنى المعروف ما بين الأوزبك والقرغيز والطاجيك والكوزاك والتركمان، ودولهم الخمس كانت جميعها تسمى “تركستان الغربية”، وهي ذات طبيعة متقاربة كثيراً من حيث العادات والتقاليد، وفي قلب وادي فرغانة المحاط بجبال من جوانبه الثلاثة تتقاطع ثلاث دول هي قرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، فلا يكاد يبدو ثمة فارق جوهري بين شعوبها.. تتغير بعض الملامح العرقية لكن يبقى الإسلام هو جامعها الأول.. وإليه تعود..